العدد 440

المهزومون المهزوزون

كثيرًا ما نسمع ونرى جنود الخلافة يرددون في مرئياتهم أو مجالسهم، أنّ الله تعالى سيفتح لهم البلاد ويغزون دول الكفر ويحكّمون شرع الله في عقر ديارهم ويرثون أرضهم وأموالهم، وهذا لا شك نابع من حسن ظنهم بالله تعالى ويقينهم بوعده، فهو سبحانه لا يخلف الميعاد، وهو حسْب من توكل عليه كما قال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}.
وهذا اليقين بالله تعالى وسط تتابع المحن وكثرة الابتلاءات، هو سنة الأنبياء والصالحين على مر العصور في أحلك الظروف والدهور، فهو حال نبي الله موسى -عليه السلام- لما أتبعه فرعون بجنوده، وانقطعت منهم أسباب الأرض فقال بكل يقين بالله: {كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}، وهو قول نبينا ﷺ لصاحبه ورفيق دربه لمّا لحق بهما المشركون وحاصروهما في الغار: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}، فالمجاهدون في طريق اليقين هذا سائرون على ذات النهج النبوي المستمر حتى يقاتل آخر السائرين فيه الدجال، وهذا هو درب الطائفة المنصورة لا نعرف له بديلا.
وعلى النقيض تماما من ذلك، نجد أتباع الطوائف المخذولة، الذين يخشون من العدو كخشية الله أو أشدّ خشية! ويظنون أنه لا يعزب عن دوائر استخباراتهم مثقال ذرة في الأرض، وأن كلّ ما يجري تحت سيطرتهم وبعلمهم وإدارتهم وإرادتهم، وأن المسلمين لا يستطيعون رفع رؤوسهم ولا طاقة لهم بمقارعة عدوهم، ولو يسر الله للمجاهدين الأسباب فضربوا عدوهم في مقتل، كبُر ذلك في صدورهم ولم يستقم مع ما رسخ في نفوسهم من الهزيمة وضعف الإيمان بقدرة الله وقوته وتوفيقه ومعيّته لعباده، فذهبت أنفسهم تتأول التأويلات وتنسج من وحي خيالاتهم المؤامرات!
ولو قدّر الله تعالى لأي عمل عدم النجاح، لرأيت نفس هؤلاء يخرجون رؤوسهم ليتكلموا عن “سوء التدبير والتخطيط” وأن هذه هي النتيجة المتوقعة سلفا! وراحوا يبتون وينفخون أن المسلمين ضعاف لا طاقة لهم بعدوهم، وأنهم بالغوا في تقدير إمكانياتهم مقابل إمكانيات عدوهم، ورددوا مقالة من لم يترسخ الإيمان في قلوبهم، الذين أخبرنا الله عنهم في كتابه: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، فهؤلاء يرون المجاهدين مغروين بيقينهم بالله، حين توكلوا عليه وأعدوا ما استطاعوا من عدة ليواجهوا بها قوى الكفر التي تفوقهم عددا وعدة، ومنشأ ذلك هو المرض المستحكم من قلوبهم، الذي يمنعهم من الارتقاء إلى هذه الدرجة العالية من التوكل على الله تعالى مسبّب الأسباب، الآمر بالجهاد، الواعد بالنصر سبحانه وتعالى.
هذه الهزيمة الداخلية والهزة الكبيرة في نفوس هؤلاء، هي من نتائج تراكم الحروب الدينية التي يشنها الكافرون على المسلمين، والتي أفرزت هذه النفوس المريضة المهزومة المهزوزة، والتي ترى أن استجداء العدو أخف ضررا من مواجهته، وأن الذلة والصغار مضروب على المسلمين لا الكافرين! وأن الحل في تقبل الواقع كما هو دون تغييره، ومسايرة التيار أيا كان، وأن السلامة لا يعدلها شيء حتى لو كانت على حساب دين الله تعالى ودماء المسلمين وحرماتهم! بل ذهب الحال ببعضهم أن سارعوا بالكفر ليس اقتناعا به بل خوفا من بطش أهله! كما قال تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ..}، قال ابن كثير: “(يسارعون فيهم) أي: يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر، (يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) أي: يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكفار بالمسلمين، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى فينفعهم ذلك” [التفسير].
إن المؤمن المتوكل على الله حق توكله الموقن بوعده، المنتصر على نفسه، لا يهاب ما حشده عدوه ضده من إمكانيات مهما عظمت من قوة، فهو يدرك أن كل ما صنعه البشر تحت قدرة مَن توكل عليه سبحانه، ولا يحصل له إلا ما قدره الله عليه وعليهم، وتأمل قول نوح -عليه السلام- لقومه: {يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ}، فهو -عليه السلام- يخبرهم أنه إن كانت أنفسهم قد ضاقت بدعوة التوحيد ذرعا، فليجمعوا كل ما يستطيعون عليه، هم وشركاؤهم، ثم ليستخدموا كل ما عندهم من قوة ضده! فإنه قد توكل على الله رب العالمين، وهذا هو طريق الأنبياء الذين كانوا فرادى وسط جموع الكافرين وسطوتهم، لم تمنعهم الحسابات المادية من الصدع بالحق مع تخويف الباطل وإزباده وإرعاده.

والواجب على المسلمين اليوم أن يتنبّهوا لهذا الخطر الداخلي، وتلك النفوس المهزومة فإنها تجرّ على أبناء المسلمين ضعفا وخورا، وتزين لهم الخنوع والقعود وتروج له، وتعلّم العامة سوء الظن بربهم والتمادي في معصية تعطيل الجهاد والتثاقل إلى الأرض.
ولنا أسوة حسنة في عصرنا الحاضر بجنود الدولة الإسلامية، فنحسب أنهم لم يبالوا بهرطقات أهل التخذيل والإرجاف وكل أصوات النشاز التي وقفت ضدهم قديما وحديثا، تحاول أن تثنيهم عن مواصلة طريقهم، وتُخوّفهم بجموع الكافرين وجيوشهم وتحالفاتهم، وأنها ستقضي على دولتهم وتنهي دعوتها في مهدها، فأبوا الانصياع إلا لأمر الله تعالى متأسين مقتدين بسلفهم الأول: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، ولذلك لم يخيب الله تعالى ظنهم وأكرمهم بأن هداهم إلى الحق وحفظ جهادهم وأمضاه لهم، وهذا هو السر في مواصلتهم طريقهم غير آبهين بالنفوس المهزومة على كثرتها وكثرة إرجافها وتثبيطها، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.